تاريخ الغلاطيون في الكتاب المقدس
إضغط هنا لمشاهدة الصوره بحجمها الأصلي 743x502px.
تحمل كلمة "غلاطية"
– في التاريخ القديم – مفهوماً جغرافياً، ومفهوماً تاريخياً. ففي مفهومها
الأول (وهو مفهوم عرقي) تعني مملكة غلاطية في الجزء الشمالي من الهضبة
الوسطى في أسيا الصغرى، وكانت تتكون من أجزاء من مقاطعتي فريجية وكبدوكية.
وأطلق عليها هذا الاسم "غلاطية" لأن هذه المنطقة احتلها الغاليون، وهم شعب
كلتي من الشعوب الآرية التي زحفت على أوروبا في الألفين السابقين للميلاد
ثم في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، عبروا الدردنيل بناء على دعوة حمقاء
من "نيكوميدس" (Nicomedes) الأول ملك بيثنية لمؤازرته في الحرب الأهلية
فزحفوا على أسيا الصغرى في 278 ق.م. وبعد فترة من الغزو والنهب استقروا
أخيرا في منطقة المرتفعات الممتدة من نهر "سنجاري" إلى خط يقع شرقي نهر
"الهالز" حيث هزمهم أتَّالوس (Attalus) الأول ملك برغامس وحصرهم في هذه
المنطقة في 230 ق.م. ولكن هؤلاء الكلتيين واصلوا غاراتهم على جيرانهم. ولكن
بعد معركة "مغنيسيا" في 190 ق.م. التي كانت بداية اهتمام روما بالسيطرة
على أسيا الصغرى، ورثت روما مشكلة الغاليين.
أرسلت روما "مانلينوس فولسو" (Manlius
Vulso) لإخضاع هذه القبائل، فنجح في ذلك في 188 ق.م. وبالمهارة
الدبلوماسية التي اشتهرت بها روما استطاعت أن تستخدم الغلاطيين في الضغط
على مملكة برغامس، بل وتحالفوا معها عندما وجَّه "مثريديتس" السادس
(Mithridates) ملك بنطس هجماته على روما في محاولة منه للاستيلاء على كل
أسيا الصغرى.
وقد
تم تنظيم غلاطية المكونة من قبائل متعددة، على الأسلوب الكلتي، فشغلت كل
قبيلة من القبائل الثلاثة الرئيسية، وهي : "التوليستوبوجي" (Tolistobogu) ،
و"التكتوساجس" (Tectusages) ، و"التركمي" (Trocomi) ، منطقة منفصلة، وكانت
عواصمهم هي: "بسيونس" (Pessinus) و"أنكرا" (أنقرة حالياً) و"تافيوم"
(Tavium) على الترتيب.
وكانت كل قبيلة تنقسم إلى أربعة عشائر أو بطون،
يرأس كل منها رئيس ربع. وكان يجتمع المجلس الاتحادي للقبائل الثلاث
دورياً، وكان له الحكم في قضايا القتل، وهكذا احتفظت هذه القبائل الكلتية
بتماسكها، كما احتفظت بطابعها الخاص تحت حكم رومَا. ويذكر جيروم أنهم
احتفظوا بلغتهم الغالِّية حتى القرن الخامس. ويبدو أن تنظيم "بومبي" لأسيا
الصغرى في 63 ق.م. شمل إقامة حاكم أعلى لغلاطية هو "ديوتاروس" (Deiotarus)
رئيس قبيلة "التوليستوبوجو" في غربي غلاطية، وقد ساعد بومبي مساعدة كبيرة
في حربه الثالثة ضد "مثريديتس" فكافأه بومبي في 62 ق.م. بأن أقطعه جزءاً من
بنطس. وبعد ذلك بنحو اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، منحه مجلس الشيوخ
في روما مقاطعة أرمينية الصغرى، كما منحه أيضاً لقب "ملك".
وكان من الطبيعي أن ينضم ملك غلاطية الى بومبي
في حربه ضد يوليوس قيصر وعندما انتصر قيصر خلعه من الحكم وفي 45 ق.م. وقف
متهما بالتمرد أمام قيصر وكان يدافع عنه الخطيب الشهير "شيشرون" الذي وصل
إلينا دفاعه وقد تصادق "ديوتاروس" مع ابن شيشرون عندما كان شيشرون حاكما
لكيليكية وبعد اغتيال قيصر في السنة التالية استعاد "ديوتاروس" حكمه
للاقليم واستطاع شراء اعتراف أنطونيوس وناصر بروتوس وكاسيوس في الحرب
الأهلية – وكان هذا اختيار خاطئا أيضا – ولكن يبدو أنه لم يكن منه بد لأن
القتلة كانوا يحولون بينه وبين الاتصال بروما ولكن بانتقاله في الوقت
المناسب الى جانب أنطونيوس في فيلبي استعاد "ديوتاروس" ملكه وفى 42 ق.م.
بعد أن قتل رئيس ربع منافس استعاد حكم كل غلاطية والمناطق الملحقة بها.
ولهذه
التفاصيل التاريخية أهميتها لمعرفة التطور الذي حدث في منطقة غلاطية
الكلتية، حتى تحولت إلى ولاية رومانية متعددة الجنسيات، وكذلك لمعرفة
السهولة التي كانت بها روما تقوم بتعديل حدود الولايات حسب المتغيرات
الإدارية.
ومات"ديوتاروس"
في 40 ق.م. وخلفه أمين سره أمينتاس (Amyntas) الذي كان على رأس القوات
الغالَّية التي حاربت مع بروتوس وكاسيوس في فيلبي. كما أنه شجع على نقل
ولاء هذه القوات إلى جانب أنطونيوس، فكافأ أنطونيوس أمينتاس في 39 ق.م.
بإقامته ملكاً على مملكة غلاطية التي شملت أخيراً أجزاء من ليكية وبمفيلية
وبيسيدية. ورافق أمينتاس أنطونيوس إلى موقعة "أكتيوم" التي دارت فيها رحى
الحرب الأهلية بين أنطونيوس و"أكتافيوس"، تلك المعركة التي انتهت بانتصار
أوكتافيوس وانتهاء الجمهورية.
وهكذا أعاد التاريخ نفسه،
فقد وقف ملك غلاطية مرة أخرى في الجانب الخاسر. ولكن حدث أنه قبيل ابتداء
معركة أكتيوم البحرية، استطاع أمينتاس – تحت ضغط الظروف الجغرافية
والسياسية – أن ينقل ولاءه – في الوقت المناسب – إلى الجانب المنتصر
"أوكتافيوس" الذي خرج من المعركة، وهو الامبراطور أوغسطس قيصر، فثبَّت
أمينتاس ملكاً على كل ممتلكاته.
ومات أمينتاس في حملته للقضاء على تمرد سكان المرتفعات الجنوبية
في مملكته وفي 25 ق.م. انتهز "أوغسطس قيصر" فرصة إعاده تنظيم الإمبراطورية
وتحصين حدودها وقام بتعديل حدود مملكة "أمينتاس" بإضافة أجزاء من فريجية
وليكاؤنية وبيسيدية وربما من بمفيلية أيضاً، وجعلها ولاية واحدة باسم
"غلاطية، ثم أضيفت بعد ذلك أجزاء من بافلاجونيا وبنطس إلى ولاية غلاطية
التي ظل يحكمها مندوب امبراطورى حتى 72 م. وفي تلك السنة أضيفت كبدوكية
وأرمينية الصغرى إلى الولاية، ووضعت تحت حكم مندوب قنصلي وقد أعاد
الامبراطور "تراجان" تنظيم الدولة، فاستقطع في 137م أجزاء من ولاية غلاطية.
وفي عهد "دقلديانوس"، في أواخر القرن الثالث بعد الميلاد انكمشت الولاية
داخل حدودها العرقية القديمة وكانت المدن الرئيسية في القرن الأول الميلادي
هي: أنكرا وأنطاكية بيسيدية، كما كانت ولاية غلاطية تضم المدن الأخرى التي
زارها الرسول بولس زيارة مثمرة في رحلته الأولى إلى أسيا الصغرى، وهي مدن:
إيقونية ولسترة ودربة، التي كان بها عدد كبير من الرومان واليونانين
واليهود.
والمعنى
الدقيق لكلمة "غلاطية" له أهميته بالنسبة لدراسة العهد الجديد، إذ يدور
حولها جدل لم يحسم نهائياً بعد. فمما لا يقبل الجدل أن الرسول بولس – حسبما
جاء في الأصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر أعمال الرسل – قد زار
المراكز الحضرية في الجزء الجنوبي من ولاية غلاطية، وأسس كنائس مسيحية
هناك. ولكن هناك عبارة جاءت في سفر أعمال الرسل، وهي أن الرسول بولس ومن
معه "اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية"
(أع
16: 6) مما جعل البعض يقولون إن الرسول زار أيضاً القسم الشمالي من غلاطية
التي كانت تسكنها الطبقة ذات الأصول الكلتية وأنه أسس هناك كنائس (وستناقش
هذه القضية بشئ من التفصيل عند الحديث "عمن كتبت له الرسالة" في المبحث
التالي).
ولا
يفوتنا أن نشير الى أن غلاطية ذكرت بين البلاد التي كتب الرسول بولس
رسالته إليها حيث نقرأ: "إلى المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية
وأسيا وبثينية"
(1
بط 1: 1). ويبدو واضحاً أن حامل الرسالة سار في طريقه من الشرق الى الغرب
في النصف الشمالي من شبُة جزيرة أسيا الصغرى، وكانت هناك طرق معبَّدة، حيث
اهتمت الحكومات الرومانية بتعبيد الطرق ليسهل الوصول إلى أطراف
الامبراطورية الشاسعة. كما أن توجيه الرسالة الى المؤمنين في كل هذه الجهات
المذكورة يدل على المدى الذي كانت قد وصلت إليه البشارة بالإنجيل، وأثمرت
ثمرها في تأسيس مجتمعات مسيحية