فضيلة التجرد في نظر الناس سوداء، وكذلك إخلاء الذات.
السيد المسيح أخلى ذاته، وأخذ
شكل العبد (في 2: 7). وُولد في مزود بقر، وعاش في بيت رجل نجار فقير، ومن
أم يتيمة وفقيرة، ومن قرية صغيرة. وُدعى ناصرياً نسبة إلى الناصرة التي
كانوا يتعجبون أن يخرج منها شيئاً صالح (يو 1: 46) (اقرأ مقالاً عن هذا
الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). وهرب في
طفولته إلى مصر. ثم عاش لا يجد أين يسند رأسه (مت 8: 20). وكان "رجل أوجاع،
ومختبر الحزن" (أش 53: 4). وأخيراً حكم عليه بالموت، واستهزأوا به وصلبوه
كفاعل إثم بين لصين..
صورة تبدو سوداء. وربما في نظر الناس تمثل المهانة والضعف! ولكنها كانت جميلة، تمثل الحب والبذل والفداء واخلاء الذات.
المحبة وهى صاعدة على الصليب، تقول للناس: لا تنظروا إلىّ لكون صورتي على الصليب تبدو سوداء في نظركم. لأن الشمس قد لوّحتني. عملية الإخلاء صيرتني سوداء.
وكذلك البذل والفداء جعلني "كشاه تساق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام جازيها" (أش 53: 7). إنها صورة سوداء وجميلة.
صدقوني إن قصة التجسد والفداء، في هذه العبارة العميقة "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم".
هذه الصورة التي حاول البعض أن
يتبرأ منها: "ملعون من ُعلق علي خشبة" (غل 3: 13).. صارت أبهى وأجمل صورة
في الوجود، يمجدها ويقبّلها الجميع. وتزين الناس والأماكن. ولا ينظرون
إليها لكونها سوداء. فإن الشمس قد لوّحتها.. وكيف لوّحتها؟
لقد غيّر السيد المسيح موازين العالم. غير الإيديولوجيات التي يؤمن بها الناس. وجعل هذه السوداء تبدو جميلة.
وهكذا كثير من الفضائل تبدو سوداء وهى جميلة.
ربما تبدو أمامك صورة سوداء، أن
تحوّل الخد الأخر، وتمشي الميل الثاني. وتكون دائماً مراضياً لخصمك مادمت
في الطريق (مت 5: 25). ولكنها صورة جميلة، تدل على نقاوة القلب من الداخل،
وخلوه من د ومن الرغبة في الإنتقام.
إن التسامح أكبر وأقوى من الإهانة التي تصدر من أشخاص مغلوبين من أعصابهم!
ولذلك فإن الرسول يطلب من الأقوياء أن يحتملوا ضعف الضعفاء (رو 15: 1).
قوة الإحتمال تبدو كأنها ضعف، وكأنها سوداء وهى جميلة!
مثل مياه النيل المحمله بالطمي، هى أيضاً سوداء وجميلة.
كذلك فضيلة الصبر، فضيلة تبدو سوداء وُمرة. ولكن ما أجمل الصبر. يقول الكتاب "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13).
عبارة (سوداء وجميلة) تنطبق أيضاً على أولئك المظلومين، الذين لا يدافعون عن أنفسهم، ويظهرون كأنهم مذنبون، وهم أبرياء!
صورة أمام الناس سوداء، وهى
جميلة. وليست فقط جميلة لأنهم أبرياء، بل بالأكثر لأنهم لم يدافعوا عن
أنفسهم، ولم يهتموا أن يظهروا أمام الناس أبرياء.
مثال ذلك يوسف الصديق الذي كان
في نظر الناس عبداً، وقبل الأمر في صمت وعلى الرغم من إخلاصه الشديد لسيده،
أتهمته المرأة ظلماً، وألقى في السجن كفاجر.. بصورة سوداء، ولكنها في
أعماقها أجمل الصور روحياً.
لو دافع يوسف عن نفسه وقت بيعه،
لأحرج أخوته الذين كانوا يبيعونه. ولو دافع عن نفسه في تهمة الزنا، لأحرج
أمرأة فوطيفار. وهكذا فضّل ألا يحرج أحداً، وليكن هو الضحية وكبش الفداء.
صورة جميلة لنفسِ نبيلة، على الرغم مما فيها من العبودية والظلم.
عكس الصورة التي تبدو سوداء وجميلة، الصورة التي تبدو جميلة وهى في حقيقتها سوداء.
مثل القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنه (مت 23: 27).
أما اولاد الله، فلا يهمهم
الخارج ماذا يكون "ليكن أسود في نظر الناس، إنما المهم هو القلب من الداخل
كما يراه الله الذي قال "يا إبني أعطني قلبك" (أم 23: 26).
إنهم يهتمون بالداخل الذي يراه
الله، وليس بالخارج الذي يراه الناس. وهكذا يخفون صومهم وصلاتهم وصدقتهم،
كما أمر الرب. وأبوهم الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية (مت